الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشريف الرضي: ومن السورة التي يذكر فيها يوسف عليه السلام:.[سورة يوسف: آية 4] {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)}قوله: {يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} [4]. وهذه استعارة، لأن الكواكب والشمس والقمر مما لا يعقل، فكان الوجه أن يقال. ساجدة. ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل، جاز أن توصف بصفة من يعقل، لأن السجود من فعل العقلاء. وهذا كقوله سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} فلما كانت النمل في هذا القول مأمورة أمر من يعقل جرى الخطاب عليها جريه على من يعقل. مثل ذلك قوله تعالى: {وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا} لأنها لما شهدت عليهم شهادة العقلاء المخاطبين أجروا- كما في هذا الخطاب- مجرى العقلاء المخاطبين. ومن الشاهد على ذلك قول عبدة بن الطبيب:فلما جعله بمنزلة الداعي جعل الديكة بمنزلة القوم المدعوّين، وجعلهم أسرة له، وأسرة الرجل قومه ورهطه. والمعازيل الذين لا سلاح معهم. فكأنه جعله مستنصرا من لا نصرة له ولا غناء عنده. وقريب من ذلك قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ} على أحد القولين. فكأنه سبحانه ردّ خاضعين إلى أصحاب الأعناق لا إلى الأعناق، لأن الخضوع منهم يكون على الحقيقة.وقد يجوز أيضا أن يكون قوله في ذكر الكواكب والشمس والقمر: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} إنما حسن على تأويل تلك الرؤيا. وتأويلها يتناول من يعقل من إخوة يوسف وأبويه. فجرى الوصف على تأويل الرؤيا، ومصير العقبى. وهذا موضع حسن، ولم يمض لى كمن تقدم. .[سورة يوسف: آية 18] {وَجَاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)}وقوله سبحانه: {وَجَاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [18] وهذه استعارة. لأن الدم لا يوصف بالكذب على الحقيقة. والمراد بذلك- واللّه أعلم- بدم مكذوب فيه، والتقدير بدم ذى كذب. وإنما يوصف الدم بالمصدر الذي هو (كذب) على طريق المبالغة.لأن الدعوى التي علقت بذلك الدم كانت غاية في الكذب.وقال بعضهم: قد يجوز أيضا أن يكون: {كذب} هاهنا صفة لقول محذوف يدلّ عليه الحال. فكأنّ التقدير: وجاءوا على قميصه بدم، وجاءوا بقول كذب، إذ كانت إشارتهم إلى آثار الدم في القميص قد صحبها قول منهم يؤكد تلك الحال، وهو قولهم: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [17]. والقول الأول أصوب..ومن غرائب التفسير: ما روى عن أبى عمرو بن العلاء أنه قال: سمعت بعض الرواة يقول: بدم كدب بالإضافة من الدال. وقال: هو الجدى في كلام الكنعانيين، وأنشد لبعضهم:وقيل: إنهم لطخوا قميص يوسف عليه السلام بدم ظبى ذبحوه.وقوله سبحانه: {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [18] وهذه استعارة.وحقيقة التسويل تزيين الإنسان لغيره أمرا غير جميل. جعل سبحانه أنفسهم لمّا قوى فيها الإقدام على ذلك الأمر المذموم بمنزلة الغير الذي يحسّن لهم فعل القبيح، ويحملهم على ركوب العظيم. .[سورة يوسف: آية 30] {وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)}وقوله سبحانه: {قَدْ شَغَفَها حُبًّا} [30] وهذه استعارة. والمراد بها أن حبه تغلغل إليها، حتى أصاب شغافها، وهو غشاء قلبها. كما تقول: بطنت الرّجل. إذا أصبت بطنه. ويقال: معنى شغفها أي سلب شغاف قلبها، على طريق المبالغة في وصف حبها له، كما تقول: سلبت الرّجل إذا أخذت سلبه..[سورة يوسف: آية 44] {قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)}وقوله سبحانه: {قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ} [44] وهذه أبلغ استعارة وأحسن عبارة لأن أحد الأضغاث: ضغث. وهو الخليط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، كالحزمة وما يجرى مجراها، فشبه سبحانه اختلاط الأحلام، وما مر به الإنسان من المحبوب والمكروه، والمساءة والسرور باختلاط الحشيش المجموع من أخياف عدة، وأصناف كثيرة..[سورة يوسف: آية 48] {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)}وقوله سبحانه: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [48]. وهذه استعارة. والمراد بالسّبع الشداد: السّنون المجدبة.ومعنى {يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}، أي ينفد فيهن ما ادخرتموه لهن من السنين المخصبة.وجرى على ذلك عادة العرب في قولهم: أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضر في عام الجدب، وزمان الأزل. حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة: الضّبع.فيقولون: أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب.وقال بعضهم: إنما نسب تعالى الأكل إليهن لأن الناس يأكلون فيهن ما ادخروه، ويستنفدون ما أعدوه. كما يقال: يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس في هذا، ويخافون في هذا..[سورة يوسف: الآيات 52- 53] {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}وقوله سبحانه: {لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ} [52]. وهذه استعارة. لأنه تعالى أقام {كيد الخائنين} مقام الخابط في طريق، ليصل إلى مضرة المكيدة وهو غافل عنه. فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه، بمعنى لا يوفقه لإصابة الغرض، ولا يسدده لبلوغ المقصد، بل يدعه يخبط في ضلاله، ويتسكع في متاهه، لأنه كالسّارى في غير طاعة اللّه، فلا يستحق أن يهدى لرشد، ولا يتسدد لقصد.وقوله سبحانه: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي} [53]. وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة.ولكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات، وينقاد بأزمتها إلى المقبّحات، كانت بمنزلة الآمر المطاع، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع. وإنما قال سبحانه: {لَأَمَّارَةٌ}.ولم يقل لآمرة، مبالغة في صفتها بكثرة الدفع في المهاوى، والقود إلى المغاوى. لأن (فعّالا) من أمثلة الكثير، كما أن (فاعلا) من أمثلة القليل..[سورة يوسف: آية 76] {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}وقوله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} [76]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطد، ولا درجات تشيد. وإنما المراد به تعلية معالم الذكر في الدنيا، ورفع منازل الثواب في الآخرة..[سورة يوسف: آية 82] {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)}وقوله سبحانه: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها} [82].وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات. والمراد: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. ومما يكشف عن ذلك قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم السلام: {وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ}. والقرية هي الأبنية المفروشة، والخطط المسكونة لا يصح منها عمل الخبائث، فعلم أن المراد بذلك أهلها. ومن الشاهد على ذلك أيضا.قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}. وقال بعضهم: إن القرية هي الجماعة المجتمعة، لا الأبنية المشيدة. وذلك مأخوذ من قولهم: قرى الماء في الحوض. إذا جمعه. والعير: هي الإبل وفيها أصحابها. وإنما أنث سبحانه ضمير القرية بقوله: {الَّتِي كُنَّا فِيها} على اللفظ كما يقول القائل: قامت تلك الطائفة، وتفرقت تلك الجماعة، على اللفظ. ويحسن منه أن يقول عقيب هذا الكلام: وأكلوا، وشربوا، وركبوا، وذهبوا، حملا على المعنى دون اللفظ. كما قال تعالى: {مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ}. ثم قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} على المعنى.وكذلك القول في العير، فإنما أنّث ضميرها على اللفظ، لأن العير مؤنثة.قال تعالى في هذه السورة: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [94]..[سورة يوسف: آية 87] {يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)}وقوله سبحانه: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [87] وهذه استعارة. والمراد ولا تيئسوا من فرج اللّه. والرّوح هو تنسيم الريح، التي يلذّ شميمها، ويطيب نسيمها. فشبه تعالى الفرج الذي يأتى بعد الكربة، ويطرق بعد اللزبة بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له، وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء في الخبر: «الريح من نفس اللّه» أي من تنفيسه عن خلقه. يريد سبحانه أن القلوب تستروح إليها، كما يستروح المكروب إلى نفسه، وذو الخناق إلى تنفسه..[سورة يوسف: آية 107] {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)}وقوله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ} [107]. وهذه استعارة. والمراد بذلك المبالغة في صفة العذاب بالعموم لهم، والإطباق عليهم، كالغاشية التي تشتمل على الشيء، فتجلله من جميع جنباته، وتستره عن العيون من كل جهاته. اهـ.
|